تنبض باريس بلغة لا تُكتب، مدينةٌ لا تعلن عن سحرها بصوت عالٍ، بل تهمس به في التفاصيل: في كرسي خيزران على رصيف مُشمس، في صوت أكواب القهوة وهي تلامس الخزف، في حوار عابر يتسلّل بين غرباء يجلسون متلاصقين قرب بعضهم. هناك، في هذه المساحات الصغيرة التي لا تثير الانتباه، تنبض روح المدينة بأبهى صورة، فليست المعالم الكبرى ولا الجادات العريضة ما يمنح باريس سحرها، بل تلك الأماكن التي يجتمع فيها الأفراد على طبيعتهم ودون تكلف، وتُعرف اليوم باسم "المكان الثالث"٠
المكان الثالث ليس منزلًا، ولا مكان عمل، بل فسحة ما بين الاثنين، تتجلى فيها مظاهر الحياة اليومية وتمنح المدينة جاذبية خاصة٠
من أين جاءت فكرة "المكان الثالث"؟
ظهر مصطلح "المكان الثالث" في ثمانينيات القرن العشرين على يد عالم الاجتماع الأميركي راي أولدنبرغ، الذي لاحظ من خلال دراساته الحضرية أن المجتمعات الصحية لا تُبنى فقط في المنزل (المكان الأول) أو مكان العمل (المكان الثاني)، بل تحتاج إلى نوع ثالث من المساحات، مساحات حيادية وغير رسمية، لا يُفرض فيها دور اجتماعي محدد، ولا تحكمها هرمية، بل تتسم بالعفوية والتنوع والانفتاح، أماكن تسمح للناس بالتفاعل بحرّية، تبادل الآراء، تكوين صداقات، وربما حتى الاختلاف... دون التكلّف أو الإحساس بالعبء٠
اعتبر أولدنبرغ أن هذه الأماكن تلعب دورًا بالغ الأهمية في خلق نسيج اجتماعي متماسك، حيث تُتاح الفرصة لكل فرد بأن يكون جزءًا من المجتمع دون الحاجة إلى مقدمات، فالروابط الإنسانية لا تتكوّن فقط في المحيطين الرسميين للعمل والأسرة، بل في اللقاءات غير المخطط لها، في الضحكة التي تتقاسمها مع نادل المقهى، أو الحوار العابر في طابور المخبز، وقد ألهم هذا المفهوم الكثير من الباحثين، ووصل صداه إلى السياسات الحضرية حول العالم، حيث بدأت المدن تتساءل: كيف نعيد البشر إلى صميم التجربة المدنية؟ كيف نصنع أماكن تنتمي فيها الأرواح كما تنتمي فيها الأجساد؟
وفي عام ٢٠٢٣، سلطت مجلة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) في مجلتها "يونسكو كورير" الضوء على هذا المفهوم في مقال عن نظرية المكان الثالث مشيرة إلى أن هذه المساحات تمثل أدوات فعّالة لبناء مجتمعات أكثر ديمقراطية، ووسيلة لإعادة المواطنين إلى الفضاء العام، وقد أبرز المقال كيف أن المكان الثالث لم يعد ترفًا حضريًا، بل ضرورة إنسانية في زمن تتسارع فيه وتيرة العزلة الرقمية وتضيق فيه فسحات الحوار الحقيقي٠
سحر باريس من منظور "المكان الثالث"
إذا كانت باريس تُعرف بجمال معمارها وتاريخها العريق ومكانتها الثقافية، فإن سحرها الأعمق يكمن في شيء يصعب قياسه بالأرقام أو الصور: روحها اليومية، تلك التي تنبع من "أماكنها الثالثة". إنها المدينة التي تحسن استخدام التفاصيل لتصنع مشهدًا متكاملًا من الحياة، كل ساحة عامة في باريس تصلح أن تكون "مكانًا ثالثًا"، مكانًا للحضور، للدهشة، للانتماء اللحظي الذي لا يحتاج إلى بطاقة عضوية أو دعوة مسبقة٠
فالمقيم في باريس لا يحتاج إلى مناسبة ليجلس في مقهى يراقب المارّة، أو يدخل مكتبة صغيرة بحثًا عن كتاب مجهول، أو ينضم إلى نقاش ثقافي في ساحة عامة، هذه المساحات تمنح المدينة طابعها الاجتماعي غير الرسمي، حيث تتشكّل العلاقات على إيقاع الحياة اليومية، لا على أجندات مهنية أو عائلية، في باريس، تتوزع الأماكن الثالثة عبر المدينة من مقهى صغير في مونمارتر، إلى مكتبة مضاءة في الحي اللاتيني، إلى حديقة يلهو فيها الأطفال بعد الظهيرة٠
هذا الحضور الكثيف للمكان الثالث يمنح باريس جاذبية متجددة، فهي ليست فقط وجهة سياحية مبهرة أو مدينة ثقافة وفن، بل هي تجربة اجتماعية حية تنبض في الزوايا العامة، في اللقاءات الجماعية، وفي القدرة الفريدة على خلق مشاعر الانتماء من خلال الفضاء العام، وبذلك، تصبح باريس مرآة للنظرية: مدينة تجسّد بأناقة ما حلم به أولدنبرغ، وما دعت إليه اليونسكو: مكان تنتمي إليه، ولو كنت غريبًا٠
أمثلة من "أماكن باريس الثالثة"
كافيه دو فلور ولي دو ماغو – قلب الضفة الشمالية
منذ عشرينيات القرن الماضي، شكلت هذه المقاهي معاقل للفكر الحر والنقاش الثقافي، حيث جلس سارتر وسيمون دي بوفوار، وتحوّلت الطاولات إلى منصات فكرية. اليوم، ما زال الباريسيون والزوار يقصدونها لعيش لحظات تأمل ومحادثة، مع كتاب في اليد وقهوة في الأخرى٠
جاردان دو لوكسمبورغ – الحديقة التي تحتضن المدينة
ليست مجرد حديقة جميلة، بل عالمٌ مصغّر من الحياة الباريسية: أطفال يركضون وراء قوارب شراعية صغيرة، عازف موسيقى عند إحدى الزوايا، وزوار يجلسون على الكراسي الخضراء الشهيرة يتبادلون قصصًا أو يتناولون وجبة الغداء في انسجام تام٠
مكتبة بي إن إف – ريشليو: ملتقى المعرفة
وراء الواجهة النيوكلاسيكية لمبنى ريشليو، تنفتح أبواب الزمن على قاعة بيضاوية مذهلة، حيث يلتقي جمال العمارة بهدوء الفكر. في هذه المكتبة الوطنية، لا يحضر الزوّار فقط بحثًا عن كتب نادرة أو مخطوطات، بل يأتون أيضًا ليعيشوا طقس القراءة الجماعية الصامتة، تلتقي هناك أعين لا تعرف بعضها، لكنها تتقاسم الدهشة نفسها أمام عظمة المكان، بين رفوف التاريخ وأروقة الفن، تتجسّد فكرة "المكان الثالث" بكل معناها: مساحة خارج الزمن، تُنبت فيها العلاقات من دون ضجيج، وتُنسَج فيها لحظات الانتماء الهادئ٠
أعمدة بورين في باليه روايال – الفن كأداة تفاعلية
في فناء قصر ملكي سابق، تفترش الأرض أعمدة متباينة في الطول، تكسوها أشرطة بيضاء وسوداء كأنها تخرج من حلم معماري، عوضاً عن كونها عمل فني، فهي مساحة ثالثة بامتياز حيث يجلس الأطفال على الأعمدة وكأنهم في مسرح من وحي خيالهم، يتجول الزوّار، يلتقطون الصور، يتبادلون الحديث، أو ببساطة يتأملون المكان ليتحوّل هذا الفناء إلى مختبر حي للانتماء العفوي، كل من يمرّ به يترك فيه شيئًا ويأخذ منه شيئًا—ربما ابتسامة، أو ذكرى، أو فكرة جديدة عن معنى العيش المشترك٠
هل ستعيش تجربة المكان الثالث؟
تخيّل صباحًا باكرًا في حي الماريه. تدخل مخبزًا صغيرًا، حيث يعرفك البائع بالاسم، ويسألك إن كنت تريد كعكتك المعتادة. ثم تمشي باتجاه حديقة هادئة، تجلس على مقعد خشبي، وتفتح رواية بصفحات قديمة. لا هاتف، لا استعجال، فقط أنت والمدينة. هنا، يصبح "المكان الثالث" تجربة حسية: رائحة الزبدة المذابة، دفء الشمس الخفيف، وضحكة طفل يمر بجانبك، هذه اللحظات العابرة هي ما يجعل باريس مختلفة، إنها المدينة التي لا تحتاج إلى مواعيد رسمية لتمنحك الشعور بالانتماء، لأنها مليئة بأماكن ثالثة، حيث يمكنك أن تكون ببساطة… أنت
تمثل ضفاف نهر السين أحد أهم معالم باريس وتعتبر كمثال نموذجي للمكان الثالث الذي يتناوله المقال، ويخصص مكتب السياحة الرسمي لمدينة باريس صفحة خاصة حول التجول على ضفاف النهر وجسوره تتمن معلومات مفيدة عن تاريخ هذه الأماكن والمعالم الأثرية فيها، ويمكن تصفح الموقع على الرابط التالي