لطالما دغدغ سحر الشرق وثرواته وألوانه وفنونه أجيالاً من الأوروبيين على مر العصور٬ وطال هذا السحر الموضة الفرنسية التي باتت مفتونة بأزياء الشرق لتتشكل علاقة خاصة تعود بدايتها للقرن السابع عشر مع تطور التجارة بين فرنسا ودول الشرق الأوسط والشرق الأقصى، حيث بدأت تصل العديد من المصنوعات الحرفية الآسيوية والشرق أوسطية إلى أوروبا وتؤثر على طرق ارتداء الملابس لدى الفرنسيين. فكان لشال الكشمير، على سبيل المثال، والذي برز في شبه القارة الهندية، تأثير طويل الأمد على الموضة الأوروبية منذ أن وجد طريقه إلى فرنسا مرورًا بمصر عام 1799 عند عودة الجيوش النابليونية من مصر، ولاقى الشال ترحيبًا واسعًا لدى السيدات الفرنسيات اللواتي قمن بتنسيقه مع الفساتين الخفيفة ولبسه على الكتفين في الأيام الباردة، وتذكر المراجع من مثل الشبكة الفرنسية لأبحاث الموضة، أن ثمن الشال كان مكلفًا للغاية، مما دفع نابليون إلى الحد من استنزاف الحوالات المالية الفرنسية التي كانت تُرسل للخارج لشراء الشالات الصوفية الدافئة وأمر بنقل صناعة وإنتاج شال الكشمير إلى فرنسا عام 1810 لدعم الناتج القومي المحلي٠
بواريه سلطان الموضة الفرنسية
وكان للمجتمع الفرنسي موعد آخر مع أزياء الشرق بعد قرابة مئة مع بدايات القرن العشرين، حيث بزغ نجم مصمم الأزياء الفرنسي الأشهر بول بواريه والذي كان مسحوراً بالشرق حتى لقبّه الفرنسيون بسلطان الموضة، حيث أقام عام ١٩١١ حفلة أسطورية أسماها ألف ليلة وليلة ثانية في إشارة إلى مجموعة الحكايات الشعبية الشرقية الأشهر على الإطلاق لدى الغرب، وفيها دشن بواريه تصاميمه المستوحاة من أزياء الشرق وتحديداً شمال إفريقيا في أجواء شهريارية وشهرزادية منفردة، وتشير المصادر إلى أن بواريه أطل على الحضور بزي سلطان من سلاطين العرب، مرتدياً قفطان مزركش بالفرو من الأطراف، وعمامة من الحرير الأبيض، وحزاماً قطنياً أخضر، وخفين مخمليين مرصعين بالجواهر البراقة٠
ويشير مؤرخو الأزياء الغربيون إلى هذه الحفلة بأنها حفلة الأزياء الأكثر أهمية في كامل القرن العشرين والتي أسهمت في تغيير الأزياء الغربية إلى الأبد، واستمر بواريه بنهل ما شاء من الرموز الفنية لحضارات المنطقة العربية ودمجها في تصاميمه، ومما أعانه في ذلك كانت حالة الجنون السائدة في أوروبا الغربية لكل ما هو فرعوني إثر اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام ١٩٢٢، واستغل بواريه هذا الهوس بمصر القديمة فقام بتطويع ما يحلو له من رموز تلك الحضارة الغنية لتصميم أزياء لا تخدم التلاقح الحضاري بقدر ما هي ترسم صورة استشراقية فانتازيّة عن الشرق.٠
باليه روس: شهرزاد وكليوبترا في باريس
على الرغم من أن ليون باكست لم يكن مصمم أزياء بالأساس بل كان رسامًا بارعًا، إلا أن تصميه لأزياء فرقة البالية الشهيرة باليه روس جعل من تأثيره على الموضة الفرنسية حقيقة ثابتة لا يختلف عليها اثنان، وتمامًا كما بواريه، انغمس باكست، المولود عام ١٨٦٦ في مدينة غرودنو الواقعة اليوم في روسيا البيضاء، في الثقافة والفنون الشرقية، ووظف موهبته لتجسيد جمال الشرق الأوسط بألوانه الزاهية والمشرقة، وركز على رسم الأشخاص المرتدين لملابس مبهرجة ومكتظة بالزخارف والألوان ذات الطابع الشرقي، الأمر الذي راق للفرنسيين وزاد من شهرة باكست في فرنسا. وكان باكست قد تلقى تعليمه الفني في مدرسة الفنون الجميلة في باريس وتأثر بالعديد من الفنانين المشهورين في ذلك الوقت، مثل إدوارد مانيه وكلود مونيه وبول سيزان، وصنع باسكت لنفسه اسماً لامعاً كمصمم أزياء وديكورات فرقة باليه روس التي أسسها سيرغي دياغيليف عندما صمم ملابس وديكورات باليه كليوباترا عام ١٩٠٩ , وشهرزاد عام ١٩١٠، وتذكر المراجع أن عرضي كليوباترا وشهرزاد "أيقظا باريس من سُباتها الفني" وأذهلا الجمهور الذي ذهب لمشاهدة الأزياء والديكور الذي صار حديث المدينة، ودخلت الأزياء والديكورات الشرقية منازل الفرنسيين وانشرت موجة ورق جدران الحائط ذو الألوان الزاهية والبناطيل النسائية الواسعة المزينة بألوان شهرزاد، وهكذا خلد باكست اسمه في قائمة الفنانين ومصممي الأزياء المستشرقين الذين قدّموا لفرنسا تصور عن الشرق وأزياءه ممزوجًا بخيالاتهم وأهوائهم الشخصية٠
إيف سان لوران وعشق لامتناهي للمغرب
عندما غامر إيف سان لوران البالغ من العمر 30 عامًا بالذهاب إلى مراكش لأول مرة في عام ١٩٦٦ ، لم يكن يعلم أنه سيصبح مفتونًا مدى العمر بـالمدينة الحمراء، ولم يغب عن المغرب كثيرَا حتى توالت الزيارات وعاد كثيرًا مع رفيقه وشريكه التجاري بيير بيرجي، ووطّد علاقته مع مراكش عام ١٩٨٠ عندما اشترى منزلاً كان ينتمي إلى الرسام جاك ماجوريل، ومن هناك انطلق مصمم الأزياء الأسطوري في تصور العديد من إبداعاته التي أصبحت علامة فارقه في حياته المهنية التي استمرت ٤٠ عامًا، ولاتزال حدائق ماجوريل تحتفي بإيف سان لوران ومسيرة حياته، وفي عام ٢٠١٠ تم تغيير اسم الشارع الذي تقع فيه حديقة ماجوريل وتسميته بشارع إيف سان لوران، ولا يُخفي سان لوران تأثير المغرب على تصاميمه بل ويقرّ بأن مراكش مدّته بالإلهام خلال مسيرته في تصميم الأزياء، ويضيف أن مراكش "فتحت عينيه على عالم الألوان" وأنه يجد في أزياء النساء المراكشيات مزيج من الألوان الزاهية التي يحرص على دمجها بعد ذلك في مجموعاته. وأصبحت المغرب بذلك مملكة إيف سان لوران البوهيمية والتي اعتبرها بنظره مليئة بالغموض والغرابة، الأمر الذي دفعه للعودة مراتٍ عدة، معتبراّ إياها مكانًا يلجأ إليه المصمم الشاب كلما احتاج إلى إلهام أو خلق تصاميم جديدة، وبعد وفاة سان لوران، قرر شريكه بيير بيرجي تكريمه بافتتاح متحفين باسمه في مدينتين ارتبطت بهما حياته: باريس ومراكش، وافتتح متحف إيف سان لوران في مراكش أبوابه في أكتوبر ٢٠١٧، ويضم المعرض أعمال سان لوران، ومكتبه للكتب القيمة عن الموضة والتصميم، كما يضم حديقة ماجوريل الآنف ذكرها٠
رولاند، لورنس العرب للأزياء
ستيفان رولاند اسم يقترن بالأناقة وبالشخصيات النسائية اللامعة في جميع أنحاء العالم، يتميز بإضفاء لمسات من الثقافة العربية حاضرة في مجموعاته، والتي بدورها تعزز مكانته كأحد المصممين المفضّلين في المنطقة، ومن الأمثلة على ذلك مجموعته لعام ٢٠٢١ والتي احتل فيها القفطان على مساحة واسعة من تصاميمه المصنوعة في مشغله الباريسي,، وفي إحدى لقاءاته الإعلامية صرح رولاند بأنه يُلّقب بـ "لورنس العرب" للأزياء لشدة حبه لجمال الشرق الأوسط والثقافة العربية، وذكر أنه انبهر لدى زيارته لمسجدٍ في دمشق وأُسِر بجمال الجدران المكسوة بالفسيفساء الذهبية واللوحات الجدارية التي تعكس جمال الطبيعة في تلك المنطقة، وقبل ذلك كانت الرياض وجهته الأولى في الشرق الأوسط والتي استحوذت على إعجابه، ويذكر من زيارته تلك رائحة البخور وألوان الصحراء والتجول في البلدة القديمة والأزقة الصغيرة٠
وتطول قائمة مصممي الأزياء الذين وجدوا ضالتهم في دفء الشرق وتناغم ألوانه واقمشته، فلا شك أن الثقافة العربية كان لها تأثير كبير على الأزياء الفرنسية على مر العصور، برزت من خلال عناصر مختلفة مثل الألوان والأقمشة والتصاميم، كما يمكننا رؤية كيف أثرت الثقافة العربية في إثراء وتنويع الأزياء الفرنسية. وأن هذا التأثير لم يكن مجرد تأثير مادي، بل كان أيضًا تأثيرًا ثقافيًا واجتماعيًا حيث أصبحت الأزياء الفرنسية تعكس تفاعلًا حضاريًا بين الثقافات المختلفة، ويبقى هذا الموضوع مصدرًا مثيرًا للدراسة والبحث المستقبلي، حيث يمكن أن يساهم في فهم أعمق لتأثير الثقافات المتنوعة على صناعة الأزياء وتطورها على مر العصور٠
Copyright © 2024 Raffinée.fr - Tous droits réservés.